أعلن رئيس مجلس الوزراء العراقي حيدر العبادي يوم الاحد الماضي إطلاق عملية عسكرية لاستعادة مدينة تلعفر (60 كلم غرب الموصل) وما حولها وقد سيطر تنظيم الدولة/داعش على هذه المدينة في حزيران/ يونيو 2014. ولم يلتزم العبادي، كالعادة، بوعده، مع بدء عمليات استعادة الموصل في تشرين الأول/ نوفمبر 2016، بعدم دخول ميليشيا الحشد الشعبي إلى المدينة! فهذه الميليشيات تشارك بمستوى 12 لواء في المعركة، مع غياب أي موقف للسياسيين السنة! والجانب التركي! وتواطؤ أمريكي بات منهجيا!
شكلت مدينة تلعفر، التي تسكنها أغلبية تركمانية (التركمان 95٪ من مجموع السكان)، بؤرة لصراع طائفي دموي بين الاغلبية التركمانية السنية، والأقلية التركمانية الشيعية منذ 2004. وقد كانت الدولة العراقية نفسها، بفعل هيمنة الفاعل السياسي الشيعي المطلقة، سببا رئيسيا في زيادة حدة هذا الصراع، عبر السلوك الطائفي الذي مارسته من خلال اجهزتها الإدارية والعسكرية والأمنية لفرض هيمنة الأقلية الشيعية على المدينة، ومحاولة فرض هوية أحادية قسرية عليها! وصولا إلى محاولة فصلها عن محافظة نينوى وإعلانها «محافظة» من خلال قرار أتخذه مجلس الوزراء العراقي في 21 كانون الثاني/ يناير 2014 بالموافقة على مشروع قانون استحداث محافظة «تلعفر»، أي قبيل سيطرة تنظيم الدولة على المدينة. وهو ما يعكس رؤية الفاعل السياسي الشيعي لهذه المدينة، التي لا تنفصل عن سياق رؤية إقليمية ايرانية تتعلق بأهداف جيو ـ سياسية مرسومة لهذه المنطقة وترتبط ارتباطا مباشرا بالوضع في سوريا ولبنان.
هكذا شكلت تلعفر المدينة، وتلعفر المحافظة في إطار خرائط ما بعد داعش، نقطة التقاء مصالح محلية ذات طبيعة طائفية من جهة، ومصالح ذات طبيعة إقليمية من جهة اخرى (تنفيذ خط الحرير الإيراني الجديد الذي يربط إيران بالبحر الأبيض المتوسط وضمان طريق بري «آمن» بينها وبين سوريا والبحر من جهة، ولبنان حزب الله من جهة اخرى، فضلا عن الإمكانات الاقتصادية التي يوفرها هذا الطريق لعبور النفط والغاز الايراني في مرحلة لاحقة). والملاحظة الجوهرية هنا أن هذه الخرائط المحلية والإقليمية يبدو انها لا تتقاطع مع خرائط أخرى يعد لها الروس والأمريكيون، وضمنيا الايرانيون، في سوريا! فالفاعل الأمريكي المهيمن على القرار العسكري في العراق سمح لميليشيا الحشد الشعبي، وهي الذراع الإيديولوجي الايراني في العراق، بالوصول إلى الحدود العراقية السورية في المناطق الواقعة غرب نهر الفرات، في حين يمنعها من الوصول إلى هذه الحدود في مناطق شرق الفرات! صحيح ان هذه الميليشيات لم تتقدم حتى اللحظة سوى لمسافة تمتد نحو 40 كم من أصل مسافة تمتد لأكثر من 140 كم، وصولا إلى الحدود الإدارية بين محافظتي نينوى والانبار، وتمتد لمسافة تزيد عن 220 كم وصولا إلى نهر الفرات، وذلك بسبب من سيطرة تنظيم الدولة على هذه المنطقة في كل من العراق وسوريا، ولكن من الواضح ان هذه الميليشيات تنتظر وصول القوات السورية والميليشيات الحليفة لها (بينها ميليشيات عراقية هي جزء من الميليشيات الأم في العراق، وجميعها يرتبط بالقرار الإيراني بشكل مباشر!) إلى الحدود العراقية السورية في محافظتي دير الزور وحمص، لتستكمل تقدمها على الجانب العراقي من الحدود. أما مناطق شرق الفرات، عراقيا وسوريا، فليس من الواضح حتى اللحظة ما هي الخرائط المتفق عليها روسيا وامريكيا لهذه المنطقة، فهذه الحدود التي تمتد لمسافة تصل إلى 235 كم ضمن محافظة الانبار وصولا إلى الحدود الأردنية في الجانب العراقي، والتي تمتد لنحو 85 كم ضمن الحدود الإدارية لمحافظة دير الزور السورية، ومسافة 150 كم ضمن محافظة حمص، مازال معظمها يخضع عمليا لسيطرة تنظيم الدولة، باستثناء مسافة قصيرة تمتد لما لا يزيد عن 20 إلى 30 كم من الحدود الأردنية شمالا بعد سيطرة القوات العراقية على معبر الوليد في حزيران/ يونيو 2017. ومن الواضح ان هناك فيتو امريكيا تجاه وصول قوات النظام السوري إلى «مناطق محددة»، كما يبدو من قصف القوات الامريكية لقوات نظامية سورية تقدمت باتجاه التنف السوري في أيار/مايو وحزيران/ يونيو 2017، في مقابل ضور أخضر في «مناطق محددة» أخرى، كما اتضح ذلك في «معاقبة» الامريكيين لقوات معارضة تصدت لقوات نظامية سورية كانت تتقدم باتجاه البادية السورية إلى الشمال من المنطقة الاولى حيث أعلن البنتاغون في 28 تموز/ يوليو 2017 عن قطع علاقته مع فصيل «لواء شهداء القريتين» في ريف حمص الشرقي لمهاجمته قوات النظام!
بالعودة إلى تلعفر، تحدثنا في مقالة سابقة عن المدينة وأهميتها بالنسبة لما أسميناه خط الحرير الايراني باتجاه البحر الأبيض المتوسط، ونبهنا فيه إلى العمليات الانتقامية الطائفية التي ستحدث في المدينة، فضلا عن عمليات التغيير الديمغرافي التي ستتبع ذلك لضمان هيمنة الاقلية الشيعية التركمانية على المدينة، ثم المحافظة مستقبلا في سياق خرائط ما بعد داعش من دون أي تحديات. وقلنا حينها أن هذا الامر لن يكون بالتأكيد إلا بموافقة امريكية، ضمنية او صريحة. واليوم يبدو واضحا ان الفاعل السياسي السني قد فشل في تسويق اعتراضه على مشاركة ميليشيا الحشد الشعبي، بل أذعن للأمر الواقع في ظل تواطؤ امريكي صريح مع هذه الميليشيات، من جهة ثانية، فشل التركمان السنة في إقناع العبادي بضرورة تشكيل قوات «مشتركة» من التركمان السنة والشيعة لاستعادة المدينة وقد أعلن النائب حسن توران ذلك في 15 آب/ اغسطس 2017 !
أما ميليشيا الحشد العشائري، التي لا تشكل سوى غطاء سياسي ودعائي لميليشيا الحشد الشعبي، فقد أعلن السيد بنيان الجربا، عضو مجلس محافظة نينوى، في 22 آب/ اغسطس 2017 عدم مشاركة الحشد العشائري في معركة استعادة تلعفر رسميا بسبب «ضعف التسليح وغياب التدريب»! ويبدو ايضا ان الخطابات التركية الصاخبة حول الفيتو والخطوط الحمر في هذا السياق قد خفتت إلى حد الصمت! ولا يزال الأمريكيون يتابعون سياستهم المنهجية في التركيز على هزيمة تنظيم الدولة، وبالتالي استعدادهم للتعاطي مع أية قوة تؤدي هذه المهمة علنا كما هو الحال مع قوات سوريا الديمقراطية أو من خلال الصمت والتواطؤ كما هو الحال مع ميليشيا الحشد الشعبي، بل وقد تغطي على الانتهاكات المنهجية التي يقومون بها!
إن مراجعة سريعة للبيان الذي أعلنه قائد العمليات المشتركة بشأن عملية «قادمون يا تلعفر» (مرة أخرى يتم استخدام عبارة ذات حمولة ترتبط بالصراع الطائفي في العراق، تحيل إلى عبارة «قادمون يا بغداد» التي استخدمها بعض المغمورين في ساحة اعتصام الرمادي في بداية عام 2013) تكشف بوضوح عن السياق الطائفي الذي يحكم العملية العسكرية، والذي يرسخ فكرة ان المنتصرين على الأرض مصرون على فرض رؤاهم وخرائطهم. فالبيان يكشف عن مشاركة 12 لواء من الحشد الشعبي وهي: اللواء الثاني (فرقة الإمام علي القتالية)، واللواء الثالث والرابع والخامس والعاشر (منظمة بدر)، واللواء السادس (كتائب جند الإمام)، واللواء الحادي عشر (لواء علي الأكبر)، واللواء السابع عشر (سرايا الجهاد)، واللواء السادس والعشرون (فرقة العباس العسكرية)، واللواء الثالث والأربعون (عصائب اهل الحق)، واللواء السابع والأربعين (كتائب حزب الله)، واللواء الثالث والخمسون (لواء الحسين: ويتكون من تركمان شيعة من اهالي تلعفر بقيادة جعفر باب الموسوي) وليس محرجا لأحد هنا ان تسعة منها تؤمن بمبدأ الولاية العامة المطلقة للفقيه (ولاية الفقيه)، وتضع صورة الخامنئي في مكاتبها وعلى مواقعها الرسمية!
كما يكشف البيان عن مشاركة قوات الشرطة الاتحادية، ذات البنية الطائفية والتي أصبحت غطاء صريحا للميليشيات منذ هيمنة منظمة بدر عليها بعد عام 2010! وصولا إلى تبادل القيادات بينها وبين هذه الميليشيا (قائد اللواء الخامس/ منظمة بدر المشارك في العملية أبو ضرغام حيدر يوسف المطوري كان قائدا للفرقة السادسة في الشرطة الاتحادية حتى أيار/مايو 2017)!). فضلا عن قوات الرد السريع التابعة لوزارة الداخلية بقيادة اللواء أبو تراب ثامر اسماعيل الحسيني (سبق للجيش الامريكي ان اعتقله في في عام 2007 بتهمة ارتباطه بالميليشيات وقيامه باعتقال وتعذيب وابتزاز مواطنين سنة (صحيفة لوس «أنجليس تايمز» في 21 أيلول/سبتمبر 2007)!
بل ان الجيش العراقي نفسه المشارك في العملية لم يبتعد كثيرا عن هذا السياق الطائفي، فالفرقة 15 المشاركة في العملية تضم في هيكليتها اللواء 92 الذي يتكون من مقاتلين تركمان شيعة من مدينة تلعفر!
في نهاية هذا المقال، نستذكر حديث تيري ايغلتن في كتابه «الإرهاب المقدس» عن الانتصارات العسكرية على الإرهاب التي تتحول إلى فشل، وتنقلب في النهاية إلى هزائم اخلاقية! وواضح ان معركة تلعفر ليست بعيدة عن هذا التوصيف!
يحيى الكبيسي
٭ كاتب عراقي