《حكاية صورة طانطانية 》

– سقط القرن لكن الحكاية لم تسقط ،ما زالت عضباء تناطح التاريخ بقرنها الوحيد ،سماء ترتدي برقع من الغيوم السوداء تكاد لذعة نسيم أيار الإستثنائي هنا بمدينة الملح تلامس وجنة المتأمل لعمق الصورة وعبقها ،أو ربما قد تتحقق نبوءة راع – يخبط أطاف – من فوق هضبة “السويهلة” يترصد حدود خيمة السحاب، فتسقي قراب السماء جذب هذه البلاد ،بوابة كبرى تحفها كملائكة عذراء الكتدرائية بوابتان صغيرتان تقف شامخة كقوس النصر، لتحكي حكاية سوق أسبوعية لم يطب لها المقام كثيرا في يوم الخميس لتقفز على الأيام وتجعل لها من الأحد على طريقة أسواق الفرونكوفنيين نهاية الأسبوع يوما موعودا ،عن جنوبها – البوابة- بهامش السوق تركن في إحتشام بوابة ثانوية أخرى ،ستفضي بك مباشرة الى حائكات حصير السمار ،نسوة حازمات جدا كالمالك الحزين يلتحفن السواد لونا واحدا و وحيدا يميز حياتهن ينتقبن في حياء وشموخ لا تعرف البسمة سبيلا على تقاسيم وجوههم إلا ناذرا ، هن كالحصير لا ينتمين الى اللون الرمادي فالسمار لا يخفي مشاعره فكلما درس حصيره مال من خضرته الى الصفرة، يعصبن بطونهن ،ويكتمن حاجتهن ،ويزدردن ريق الإيثار كي لا يستجدين رويبضات القوم ،خوفا من لعق حذاء أو خنوع أو مساومة على تيجان العزة فوق رؤوسهم ،هذا قبل أن يخصى فيهن وفينا هذا الشموخ بقفة رمضان ،وكرطون المؤسسة وطوابير التخنيع أمام الخيريات ،ونصبح شعبا يجيد مد الأيادي ليس على قارعة الطريق ولكن بطرق أخرى أكثر تمدنا،معظمهن قادمات من هوامش الحضارة لم تفتح لهن الحياة ذراعيها بالكثير من اللين، معظمهن قادمات لتدريس أبنائهن هذا الرعيل من الأبناء الذين أورثهم الحصير سره ،ومنحهم نياشين للرجولة والنضج المبكرين، فمن يفترش الحصير لا يخش السقوط ،ليصبحوا بعدها كوادر تبني اللبنات الأولى للكثير من مفاهيم الحياة المتمدنة في مدينة الملح، وحواضر أخرى نساء تحكي الندبات تحت سواد خضاب أيديهم حكاية هذا الكاف :
-يا اللي سايل عن همنا ……والل متغشمي فينا
-لا توحل خرص دمنا…وشوف دواحيس أيدينا
– وغير بعيد عن هذا رجال الصحاري -الفوخارة- ليسوا أكثر حظا منهن ،رجال نحت الزمان اخاديدا على سحنات وجوههم المتفحمة بلفح نار الكوشات علمتهم البيداء وحرائق أريفي وملاطمة الشركية لأنوفهم، قتل كل شيء لين داخلهم بنفس الطريقة التي كانوا يخنقون بها أخشاب الحطب لتتعرق داخل الكوشة كي تغدوا ذهبا أسودا ،كانوا يخنقون داخلهم كل إحساس بالوهن والضعف ليجابهوا الحياة بغلظة وإباء ،يراهنون على الخسارة قبل الربح تعرفهم مهامه زيني ،و يعرفهم وادرا وتهابهم الساقية وأبناءها، يعرفهم الطلح وتعرفهم الجداري ،تعرفهم دريمزة و السري في دلجة الليالي الحالكة يحملون أرواحهم على أكفهم ويجعلون من المجهول كفنا لهم، يشقون سبيلا وسط حقول الألغام ،رجال لا تخزهم قلوبهم منحتهم الصحراء كل أسرارها وكتموها تحت أنقبتهم، وعلى مرمى حجر من رحبة السمار ،يتراص صف من أخبية الدلالات أو التيفايات معظمهن نسوة فقدن أزواجهن في حرب المقلتين، ليسوا أكثر حظا من نسوة الحصير لكنهن إتخدن فلسفة مختلفة عنهن فلسفة البسمة لمواجهة الحياة، وجعلوا من “إظحك للدنيا تظحك لك ” حكمة لهن لا يبعن غير الكلام وبعض الأثواب المتواضعة والأعشاب الطبية ، ستبتاع لك بعض كؤوس التبغ ” مانيجة ” “أو موس مليدة ” أو لثاما وستشنف مسامعك بشريط تجتره ألة التسجيل من “الشيخ الكوجيل” أو “الشيخ الكلب” أو” الشيخ الرشيد ” أو “تبراع محجوبة منت الميداح” أو” بتي والشعراء “أو” بتي الرسالة” أو “حكاية بوكي ” وستحتسي كاس شاي بنكهة السمبل
وستكون أكثر سخاء في الدفع ،لأنك أشتريت كلمات ملغومة ملبسة بحياء مغنج ،وهنا يقال “شبعة العربي ملية وذنيه” ؛و في غمرة هذا الهدوء الصباحي ما قبل جلبة ذروة المقيل، يصدح من بعيد صوت الشيخ عبد الباسط عبد الصمد من بوق بائع الأشرطة ،وهو يبرع في ترتيل وإطالة المدود في سورة والسماء والطارق على طريقة مشاييخ الأزهر الكبار، كأنه يبارك البيع ويرقي السوق من شياطين الإنس والجان ،هناك في زاوية أخرى من السوق تحت عراقيب بائعي التبن، نسوة قدمن من شمال البوصلة يكنسن عهن التبن المتساقط يسابقن أرجل المارة علهن يوفرن بعض الكلأ لمعزاتهم ،وسط زحام عربات الحمير وصوت صراخ المتميرين من رحبة الحبوب، “العبرة “و “نص العبرة “و “الربعية “و الأكف التي تجس جودة الشعير والأنوف التي تشمه هي مفاهيم وحركات إرتباط بالارض، لن يفهما جيل الإنتماء عبر القبيلة و السلالة الرقعة الجغرافية،وفي خضم كل هذا مروض الأفاعي – لحناش – الذي ما زال ينسخ نفس الكذبة كل سوق بإخراج أفعى لها شعر كثيف ،وقرون وجناحان تطير بهما ،مع الطيور أفعى تسقط مع المطر ،ولأنها كانت مجرد خرافة حفرها في ذاكرة طوفلتنا البريئة ،بقي إسم أفعى “الساط” يسكن مخيالنا ، غير بعيد عن مروض الأفاعي ،زنجي يفترش بساط تحملق حوله الكثير من الرجال تحيط به بيوض النعام، وأرجل ظليم وريشه ، وجلد أنكواندا عملاقة ،يحاول أن يوهم كل الرجال بعجزهم الجنسي، و أنه يحمل إكسير الفحولة، دهان الفنكوش الذي يرمم كل عيوب الذكورة ،وفي أقصى الجهة الشرقية من السوق تستقبلك رائحة روث البهائم ،وسط جلبة من المأمأة و الثغاء ،هنا يكمن بيت القصيد ،هنا تصبح الرحيبة معينا لكل” لمديخنات” البدو القادمين من كل أحداب البيداء، للتمير وبيع أجلابهم وتبادل الأخبار وإقتفاء أثار المزن و مواطن الكلأ ،رجال أشداء تعرفهم بغلظتهم ورثاثة اثوابهم ونعال الميشلان قاهرة الأحراش، يلازمون أنقبتهم وكأن الوجه عورة في ديدنهم ،هنا يجب أن لا تكون هلوعا جزوعا، يجب أن تتريث كثيرا وتجيد طرح الاسئلة ،وأن تحشر أنفك في الحديث وتضع أذن ” لكيال ” وتجيد الإصغاء والإلقاء والتدقيق في تفاصيل التفاصيل بكل بساطة يجب أن تجيد : سولان الخاطر ” فأنت هنا رسول أهلك ومخبرهم لإستسقاء الأخبار، في ركن الرحيبة الغربي ،ثلاثة رجال كانوا بمثابة ملح رحبة لغنم ،ضافر شملة الأبل وعقلها، رجل أسود البشرة في عينيه حول بارز وقذاة من رمد لازمه تكاد تجزم انه أبكم ،يدخن تبغه في غليون من ساق غزال، حتى غمغماته التي تمزج بين حسانية رائبة ممزوجة بلكنة بامباريه بالكاد تفهمها، غير بعيد عنه ولد حيدا في دهائه وحكمته ولباقته يعرض مراجله ،وقدور تنكردة و أوتاد الخيام و مغارف و فرنات وبعض مواعين البدو، يمر المورتاني المتصوف الفقيه المجذوب في أختيال يجر تلابيب دراعة سوداء من دراريع” ديسة”، غير مبال بحدجات روامق العيون المستغربة ،يحمل قدحا قزديريا أبيض – جيرة – ويجوب السوق يتلو ورده الصوفي، ويفك بعض مسائل الأرث للبدو، ويأخذ منهم إتاوات كحق شرعه له العرف ويعطي نبوءاته عن الضالة من الثاغية والراغية ويبارك الأجلاب ،سأكون مجحفا إن نسيت الرجل الضرير البصر أسمر البشرة الذي يقدم موسميا يتوارى وراء بيصة من الثوب كلثام، و يتحزم حزاما جلديا فوق جلابيبه ،ويضع سلهاما أسودا وعكازا ،يصرخ في الناس يا اهل الله! المعروف؛ المعروف ؛المعروف؛ كانت صرخاته الصوفية تستنهض نواجد الناس، كأنه ينادي بقرب الساعة، لا أدري أين رمت بهم المرام؟ لكنهم بقوا منقوشين في الذاكرة، كانوا يجسدون مفهوم الهوية الثقافية للذاكرة الجماعية، لمجتمع لم يستطع أن يتخلص من حياة البداوة ،حتى في ظل التمدن الشمس، أصبحت فوق الرؤوس إذانا بوقت الذروة ،يقتنص عبد الحميد كشك دوره في بوق بائع الأشرطة، ليرخي ذوي صرخاته من الزنزانة 19 بسجن القلعة، و ينهر لحبيب بو رقيبة قائلا بورقيبة قطع الله رقبته، أو يقدح أم كلثوم ،ساعات المقيل الأولى يغادر البدو المتمييرين بعد بيع أجلابهم والإنتهال من مشارب الخبر، لا يعتريهم غير
” أدواخ” راس أتاي، هناك على حواشي الممر المؤدي الى باب المغادرة بائع المساويك والصمغ العربي، يحاول أن يفهم بعض المبتدئين أن مساوك النساء رقيق كرقتهم ،ومساوك الرجال أكثر سمكا. وأنت تغادر السوق سيثير إنتباهك مشهد الجزارين يحملون أرباع نحائر الأبل، يتسابقون الى تلبية حاجات الزبائين، معظمهم كانوا تلاميذا وصبية عند المحجوب ولد يحي ،تسدل السوق الستار على الفصل الأول من الحكاية، لتترك المجال الى فصل أخر، فصل الكادحات من فيدراليات نساء أحياء الهوامش القادمات على عربات البغال، المتبضعات أكوام الخضر أخر السوق، حين تنخفض الأثمنة ،و في العادة لا يغمض السوق أجفانه إلا على صوت أزيز المقالع بنوعيها الصامتة منها والمسرسكه، القدحة منها التي تظفر على راحة الرجل، وصاحبة العين الوحيدة ، معركة حامية الوطيس ما بين ضفتي الخليل، بين أطفال العدوتين أبناء المحاربين – عين الرحمة والدوار – الحيين الأكثر شراسة في مدينة الملح، صراع أخوي من أجل السيطرة وإستباحة النفود، هكذا كانت مدينة الملح تحي سوقها الأسبوعية لتفتح المدينة ذراعيها لشيء من الحنان أخر النهار، فتصبح نعال الميشلان نعال سيمار ،وتغدو القنادر الرثة دراريع من بزان النجمة في كف الهلال، ويتجرد الرعاة من بعض غلظتهم، يستقطعون لهم بعض الوقت كإستراحة محارب، أو كصلاة خائف – فالسارح ما يجمع – يبحثون عن أخر صيحات اشرطة الهول في الشويرع التقليدي الوحيد ،وعن اخر طلع ولد العيساوي زمن الطنطان معدل برهان، وعن قوارير للعطور عادة ما تكون كوباكو أو ماسكيلان، وعن حسناوات يجدن لعب السيك والحديث الأسود ،وإستفزاز قرائحهم للنظم، يجدن أرضاخ عنفوان الرجال ،وسقي الظمأ ويباس الأرواح دون أي كرع في بئر الأنوثة ،هناك بقايا أخلاق وشيء من التقوى ،وشيء من النبل الذي فقدناه يحكم كل علاقة بين رجل وأمراة ،كما فقدنا أثارنا وسط جحافل العابرين علينا ،تنتهي الحكاية مع أول خيط ضوء ينبلج من فجر الأثنين، لتعود دريمزات الى أوكارها ،ويعود الرعاة الى شدتهم لا يحملون معهم غير بعض المير وأشرطة من الهول، وقلوبا مليئة بالكثير من الحب وأنا أحاول أن أخذ بخطام الحكاية وأجعل لها نهاية قسرا تذكرت هذه الطليعة :
أصل خليت انت يا طنطان
بالتغريش أفطن بالتغريش
وكتن عادت يزرت بزان
تبدل بملاحف لعريش
وأخنيط إجي من مورتان
مستحمر وعليه أجريش
كانت لكور ذاك الزمان
دايرتو لعبيد طرابيش
والل هو موض الطنطان
وأشبه منو كتان الخيش

*الكاف والطلعة من التراث بتصرف
– حكاية صورة
صفحة الأخ خليل خليهن

اترك رد