المجلس الأعلى للحسابات: هل من مزيد؟!

يمكن للمجلس الأعلى للحسابات أن يعطي المزيد للوطن في مجال مراقبة سير تدبير خيرات و موارد البلاد. هذه المؤسسة الدستورية يجب أن يزيد اشعاعها الرقابي وأن تتجاوز عمليات كلاسيكية كتلك التي تقوم بها المفتشيات الحكومية وعلى رأسها المفتشية العامة للمالية. هذا المجلس ينتظر منه الكثير ولا يجب أن يظل حبيس مهام تحددها قواعد شكلية تكتفي بإحترام مساطر تهم صرف المال العام. أما ما يتعلق بتقييم السياسات العمومية، فالأمر يحتاج إلى وسائل لا تتوفر عليها حاليا كل المؤسسات الرقابية المرتبطة بالسلطات الثلاثة التي قضى الدستور بالفصل بينها. تقييم السياسات يعني ببساطة شديدة قياس ما تم وضعه كأهداف في قطاع أو مجموعة من القطاعات وما تم تخصيصه من أموال وموارد بشرية وثروات طبيعية في مواجهة ما تم إنجازه على أرض الواقع. الأمر يقتضي إذن قياس و قول حق من طرف خبراء وليس مجرد نقاش أو كلام عام يفتقر إلى الخبرة العلمية والتقييم المهني.

لا يجب أن ننتظر من مؤسسات عليا للرقابة بعضا من الكلام المتواتر والمعروف عن اشكاليات تتعلق بالمديونية في شقها المتعلق بالخزينة أو بحجمها الذي يشمل كل مؤسسات القطاع العام. والأمر يهم كذلك ،بل، ويتطلب أكثر من ملاحظة مما وصلت إليه أنظمة التقاعد من تراكم للاختلالات المالية ذات الأثر على التوازن الإجتماعي والمالي لكافة الأنظمة التقاعدية و على السوق المالي الوطني المرتبط بتمويل الإقتصاد و كافة مكوناته. المجلس الأعلى للحسابات مؤسسة يجب أن تركز على مراقبة بعدية لكل استعمالات المال العام. الأمر يتعلق بمداخيل و بنفقات عمومية و كل ما يحيط بها من قرارات تهم أملاك الدولة و الجماعات الترابية و المؤسسات العمومية. الأمر كبير جدا و تتجاوز أرقامه مئات الملايير من الدراهم التي تتعدى مخصصات الصفقات العمومية لتشمل كل موارد البلاد. حين اقرأ التقارير المتعلقة بإحترام قواعد المحاسبة العمومية و الميزاناتية، لا أجد إلا ملاحظات عادية تتعلق باختلالات شكلية. و هذا لا يقلل من شأن عمل المجلس الأعلى للحسابات. الأمر أكبر من ذاك و يتطلب تجاوزه تغيير المساطر. قاضي الحسابات لن يتمكن من الدخول إلى عمق الحسابات إذا كانت حدود مهامه لا تتيح له الولوج إلى حركات حسابات من يتعاملون مع المال العام كشركات أو أشخاص.

هناك من يتراقص فرحا حين يقرأ جملة في تقرير عن مؤسسة أو جماعة ترابية. و هناك من يصدر حكما مسبقا و يقول الكثير عن قرب تسليط سيف الرقابة على رقاب مسؤولين في قريب عاجل. من يعرف تعقد المساطر لا ينتظر شيئا من ملاحظات تحتاج إلى تكييف قضائي و إلى سنوات من التحقيق. مشكلتنا الأساسية توجد في شكلية المساطر. قد تظهر كل آثار الاغتناء السريع و غير المبرر على مدبر للشان العام و قد تضعف أمامها كل المؤسسات. كاءن حزبي قد يتحول إلى مستثمر افتراضي و ينتقل من شقة فقير إلى قصر فرعوني المساحات و يظل بعيدا عن المساءلة القانونية و المؤسساتية و السياسية و المالية. حزبه يحميه و كل المساطر تحميه و حتى عتاة الكلام يحمونه و يظل الشاهد الوحيد أمام ألله على ثرواته غير الشرعية ذلك المواطن البسيط الذي يعرف الحقيقة في زمن تغييب الحقيقة.

لا أدري لماذا تم تحييد المفتشية العامة للمالية و تقليص ادوراها سنوات قليلة بعد وصول حكومة التناوب إلى تقمص دور الفاعل في التغيير. قيل أن الأمر يتطلب التكيف مع ضرورة التخفيف من ضغط المرور من مرحلة إلى أخرى. وفي الأقوال كثير من الإختلاف. و بعد ذلك تم الرفع من درجة الخطاب حول الرقابة المالية و أصبح موعد إخراج تقرير المجلس الأعلى للحسابات و قراءة خلاصاته سياسيا بامتياز. و الأمر في نهاية المطاف دون ما ينتظره المواطن و الفاعل المؤسساتي. التقارير المنشورة لا تزيد شيئا عما تمتلئ به تقارير الرقابة المالية ” غير العليا ” للحسابات.

المشكلة في مجال الرقابة المالية أكبر من مجرد إحترام مساطر لأن فن احترامها ممكن و مسيطر عليه من طرف عتاة إحترام القواعد القانونية. و لكن فنون القتال ضد الاغتناء السريع صعبة في غياب تمكين مؤسسات الرقابة من وسائل الوصول إلى المعلومات البنكية و تلك التي تتعلق بثروات مدبري المال العام. قاضي الحسابات و مفتش المالية يعمل في إطار قانوني لا يتعدى قواعد الصرف العام و مراسيم الصفقات العمومية. أما الجانب المظلم من حركة الأموال و التدقيق التفصيلي في تنفيذ كل مكونات مشروع عمومي تعلق بالبناء أو بالدراسات التقنية فذلك صعب للغاية و يتطلب الكثير من المال و الخبرة التي تحد من عمل أجهزة الرقابة. و من أراد المزيد عليه قراءة التقارير للتأكد من محدودية دور مسؤولي الرقابة من قضاة أو من مفتشين. أتذكر لحظة تاريخية اعترض خلالها مسؤول كبير عن إخراج و نشر تقرير سنوي عن أعمال المفتشية العامة للمالية. و كان له ما أراد و خفت صوت المهنية لكثير من المهنيين و لا أقول ،جزافا، من المتمكنين من أدوات الرقابة على تدبير الشأن المالي العمومي بلادنا. و للتاريخ يجب القول أن مفتشي المالية هم من اسسوا إدارة اللجنة الوطنية للحسابات التي أصبحت تسمى بالمجلس الأعلى للحسابات.

المطلوب من مؤسسة دستورية تهتم بالرقابة على الحسابات أن ترفع سقف الحرص على تدبير المال العام. الأمور التي تهم التوازنات الماكرواقتصية ليست من مكونات اختصاصاتها ولا تتوفر على الوسائل لدراسة حجم المديونية ولا الحسابات الخارجية ولا تلك التي تتعلق بالاقتصاد الكلي. أنظمة التقاعد ليست إلا جزءا من الحماية الإجتماعية و لذلك وجب عدم التطرق إليها جزئيا. الحسابات العمومية منظومة تهم الكثير من المعطيات الخاصة بكل ما يتعلق بالمداخيل و النفقات العمومية و التصرف في كل موارد البلاد، و لهذا يجب أن يتحول المجلس الأعلى للحسابات إلى مؤسسة كبرى للرقابة في مفهومها الواسع والشامل لكل ما يتعلق باختلالات تدبير الشأن العام المالي. أن يتمخض الجبل بعد شهور عديدة من مهام الرقابة ليلد تقارير حول شكليات، فهذا أمر يتطلب تغيير إطار العمل مؤسساتيا و قانونيا. مجلس أعلى للحسابات يحتاج إلى مراجعات منهجية ووسائل عمل لتقوية دوره. وللتذكير وجب القول أن بنك المغرب و المندوبية السامية للتخطيط ومصالح وزارة الإقتصاد و المالية تنتج قاعدة بيانات مفصلة عن الإقتصاد الوطني. المطلوب من كل مؤسسات المغرب التركيز على مهامها والاتيان بالبرهان على فاعليتها. والسلام على مغرب المؤسسات الفاعلة.

طانطاني 24 : إدريس الاندلسي

اترك رد