بقلم: فيصل رشدي
ذكريات الزمن الجميل
عدت إلى مدينة الطانطان يا أحبتي الكرام، بعد خمسة عقود من الغياب، أمضيتها في العاصمة السويدية ستوكهولم. دخلت مدينتي صباحا، حيث أعادني نسيم الهواء إلى الحياة من جديد، العصافير تغني من حولي أغنية العودة وتذكرني بأغنية مارسيل” أحن إلى خبز أمي وقهوة أمي”، وبعدها ضغطت على زر المسجل الذي صدح بالأغنية الفرنسية : J’ai quitté mon pays et je suis resté fidèle، للمغني الفرنسي Enrico Macias. أثار انتباهي في مدخل المدينة تمثال الجميلات المفترق، حيث يبعد الجمل عن الآخر مسافة لا تقل عن متر واحد، لون الجملين أبيض، بينما كانا في السابق صغيرين وكان لون الجملين أحمر .
شعرت بأن شيئا من روحي أضعته، بدأت أنظر إلى مدخل المدينة الذي أصبح كله بنايات ومصانع، تذكرت صورة السيارة الرائعة التي التقط صاحبها تلك الصورة، واضعا إياها في صفحة الزمن الجميل.
أقترب شيئا فشيئا بسيارتي السوداء من النوع مرسيدس، من وجوه المارين حولي، لا أحدا أعرفه، دخلت منزلنا الذي لم يتغير منه شيء، الرائحة هي نفسها، الفراش الأحمر القديم هو هو، صورة والدي معلقة في البهو وبالقرب منها صورة أمي التي كانت في تلك الصورة أجمل وأروع. أخذت حماما ونمت، دب النوم في جسدي، وحدها هي الطنطان في العالم من تقبل راحتي وتهدأ فيها نفسيتي وتحلو لي فيها الحياة ولدينا مثل حساني يقول” الحجرة تطير إلى السماء وترجع إلى مكانها”.
استيقظت على جلبة أطفال قربنا يصرخون، اتجهت مباشرة إلى النافذة فرأيتهم يراقصون قطا أسود، دخلت ونظفت كل الأواني القديمة، إبريق شاي كبير (تاسميمت) وإناء مزخرف وصحون وإناءات كان يوضع فيها السكر والشاي. دخلت البيت فرأيت الأفرشة القديمة الحمراء، ووسائد منقوشة بحرفية عالية فيها رموز قديمة تحمل ذكريات الزمن الجميل.
تناولت وجبة الإفطار وبعد أربع ساعات تناولت وجبة الغداء، وفي قرارة نفسي أنني سأشرب الحريرة عند العم أبو الوقت.
كان الجو حارا وقت الظهيرة، سكون العصافير والصمت مطبق على الزقاق ونوم الظهيرة جاثم على الكل. نمت حتى العصر، استيقظت ونظرت إلى الساعة فإذا هي الساعة الخامسة والنصف، وبسرعة خاطفة، هيأت نفسي للخروج، ارتديت ثيابي، واتجهت مباشرة إلى شارع محمد الخامس، أمر من حولي ولا أعرف الوجوه، لم أعد أعرف أحد في هذا البلد؟ شعرت بالغربة في بلدتي، لكنني عزمت على أن أجد مطعم بوالوقت وبالوقت نفسه عل الحياة تدب في جسدي وروحي من جديد.
اقتربت من تقاطع الطرق، اتجهت محاذيا الجانب الأيمن للشارع، لأرى مقهى بو الوقت، فإذا بي أرى عطارا مكانه، التفت إلى يساري لأرى حانوت المحجوب لمديميغ فرأيته مغلقا. رآني شاب في مقتبل العمر أرى يمينا ويسارا، اتجه نحوي يسألني: هل هناك خطب ما؟ عن من تسأل؟
-فقلت له: مطعم بو الوقت، كان هنا.
-ثم رد علي: لا يوجد أحد بهذا الاسم، هذا حانوت عطار، وهو يوجد هنا منذ سنوات، لدى سماعي ما قاله الفتى، ضربتني صاعقة على رأسي وبدأت أرسل عبراتي، جلست قرب حانوت المحجوب لمديميغ أعيد رسم الذكريات الجميلة في الزمن الجميل. دخلت من الحاضر ورجعت إلى الماضي في سفر يعيدني إلى الزمن الجميل وإليكم ما كان في ذلك الزمن:
الساعة السادسة، جلسنا أنا وثلة من أصدقائي من أبناء الطانطان بمطعم بوالوقت، كنا عشرة شباب، حيث الموائد طويلة مغطاة بالبلاستيك معدة بإتقان، الكراسي الخشبية مصطفة كأحجار الدومينو، وفي الداخل، توجد الأواني الكبيرة وتحتها نار هادئة، يقف السيد بو الوقت أمام الحاجز الذي رقع بزليج الأبيض يفصل البهو عن الداخل. بو الوقت رجل قصير القامة، صغير العينين، والفم، حيث الابتسامة لا تفارق محياه، يضع عمامة سوداء على رأسه، ويرتدي بدلة زرقاء، أصل السيد بو الوقت من مدينة تزنيت، ولكنه أصبح طانطاني الهوى والإقامة ، تميزه بدلتة الزرقاء، وهي بدلة للعمل..
كان للسيد بو الوقت طريقة خاصة في العمل، تشبه طريقة الطباخ العالمي كنتاكي، يصب من الآنية الكبيرة الحريرة في أنية مستديرة تعرف في المنطقة باسم “الزلافة”، ويقدمها لنا نحن الشباب، كنا نشربها ونتلذذ بطعمها الرائع، كان المطعم مطعمنا، وفيه تحلو أحاديثنا وفيه نستمتع بأحلى اللحظات. نجلس ساعات طوال، ويسمع المارون صرخاتنا وضحكنا الهستيري والشباب يدخنون خارجا، حيث أعمدة الدخان تطال شعرهم الكثيف، كان شكل الموضة آنذاك.
كانت وجبة الحريرة هي ما يميز العم بوالوقت، لقبناه أبو الوقت لأن الحريرة كان يأتي بها في الوقت المحدد الساعة السادسة مساء، وأصبح لقبا عند أهل الطانطان. والذين لا يعرفونه نعرف أنهم غرباء ليسوا من أهل البلدة.
كان مطعم بوالوقت، مطعمنا ، مطعم أهل الطانطان، من كانت لديه حاجة أو أمانة أو حديث أو أكل، كنا نتلق في مطعم بو الوقت هناك، الذي يجمعنا وفيه ملتقانا، كانت أجمل اللحظات رفقة أصدقائي نقضيها معهم هناك، حيث الطانطان الجميل بأهله وطبيعتهم وضحكاتهم، أهل الطانطان الذين كانوا يحبون كل غريب ويستقبلون كل زائر.
أحببت مطعم بو الوقت، أحببت ذلك الزمن، الذي افتقده اليوم. إنني غريب أوطان، لا يهدأ بالي إلا أذا عدت إلى الطانطان.
*للإشارة فقط : إلى يومنا هذا لازال في عنق بعض الشباب دين السيد بوالوقت ثمن وجبة الحريرة، من كان في عنقه دين فليعده إلى ابنه.
إلى القارئ : كل ما كتبته هو من وحي خيالي لحبي ذلك الزمن الجميل.