بقلم : فيصل رشدي
وصلنا جردة شكاف، نبضات قلبي تتسارع، وفرائصي ترتعد، حلقي جف تماما من اللعاب، عرق يتصبب من جبهتي. علي حاله مثل حالي.
قلت له: ماذا فعلت يا علي؟ قال لي: لكي نضحك قليلا، علينا بالركض، ولكي نرتاح أيضا من وطأة الحياة و رتابتها في هذه المدينة، التي غادرها أهلها الطيبون.
امتد بصري اتجاه جردة شكاف، فتذكرت حفل الزفاف، ذكريات ظلت تسكن مخيلتي، فقلت في نفسي: آه يا زمن لو تعود لتلك اللحظات.
أحاطنا ظلام دامس من كل الاتجاهات، صوت لنقيق الضفادع بين جنبات واد ابن خليل، وأزيز حشرة يسمع من بعيد، نسيم دخلت نسيماته الباردة إلى خياشمنا، فروحت عنا.
عدنا إلى ديارنا عبر شارع الطانطان الأبيض. مررنا بدار مانا، التي بقيت تسكن مخيلتي، تذكرت لتوي بيت الشاعر العربي الكبير امرؤ القيس :” “قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل بسقط اللوى بين الدخول فحومل“.
غادر علي صوب داره، فتمعنت أنا دار مانا، التي تبدو كباقي ديار أهل الطانطان، مفعمة بالحياة، ممتلئة بالأمل. تمر من جانبي السيارات، صبية صغار يجلسون هناك تحت ضوء مصباح يعلو السماء، يضعون محفظة في الشارع، ويأتي الشخص المار ليأخذها، فيجر أحد الصبية المحفظة بخيط لا يرى، ليتبعها الشخص فيجرها الصبية، يضحك هو، تعلو ضحكاتهم المكان، فيقولون له: طماع يا صاح.
تذكرت مانا، تذكرت وجهها وكل شيء فيها، ابتسامتها، عيناها، ذكاءها المتقد، صوتها الذي يوقظ الملائكة من سبع سماوات.
كل شيء تغير بعد سفر مانا, الأفكار تتراقص برأسي وأسئلة تسكن عقلي: هل أسافر إلى الداخلة أم لا؟ كان هذا هو السؤال الذي خطر لي على البال، فحرك وجداني وقطع يقني بحقيقة آنية وهي الرغبة في السفر. لقد حسمت الأمر، غدا سأسافر حاملا معي أمتعتي، وشهادة’ الباكلوريا”، وبعض المال.
وأنا في حي عين الرحمة، أحدث نفسي، فإذا بشخص خلفي يضع يدياه على عيناي ويطبق كفيه عليهما، ويقول لي من أنا؟ أجبته: ولد السنهوري. فقال: لا عقة. فقال: لا فقلت له إذن أنت: مانويل. فقال لي: لا فقال لي: هل بعت النعجة؟ فقلت له: نعم. أزال يداه عن عيناي، فإذا هو: شبيهنا. آه صديقي شبيهنا، اشتقت إليك، بعد سيرنا بضع خطوات، لفحتنا رائحة البخور المعتق من شرفة منزل يبعد عنا خطوات.
عرضت عليه فكرة سفري إلى الداخلة. فرحب بها: وقال لي: أهو حب مانا؟ قلت له: نعم حب مانا، التي كنت تراني معها مرارا وتكرارا. نظر إلي بعيني قديس، فقال لي: سافر يا صديقي، فالسفر خلاص من الهم والغم، فقد تكتب لك حياة هناك. كان يحمل كيسا أسود اللون. قال لي: هذه هي هديتك لمانا. ماهي يا شبيهنا؟
قال : رمال طانطان التي إن استنشقها أبناؤها، عادوا للحياة من جديد، فقد حملتها لصديق عزيز، لكنها مكتوبة لك يا صديقي ولحبيبتك مانا. ودعت شبيهنا. دخلت منزلي، أوصدت بابه الحديدي، وأنا ألج، رأتني أمي فقالت: كيف حال اليوم عند خالتك؟ والله يا أمي رائع وجميل، عندما يغادر الإنسان المنزل، يسعد كثيرا؟
فتساءلت : لماذا تقول إن في الخروج من المنزل سعادة؟ يا أماه، عندما يلتقي الإنسان بأولئك الشيوخ، الذين يحملون كنوز الدنيا ومعادن الأخلاق، والصداقة الحقيقة، يشعر براحة أبدية وسكينة وطمأنينة، لم يعهد بمثلها من قبل ولا من بعد.
هؤلاء الشيوخ يا أماه لهم تأثير قوي علينا، ما أن تسمع اسم أحدهم حتى تقف له: إجلالا و احتراما، كبابا الطرشاني، والسالك ولد فيطح، ولحسن النجار، والسالك ولد لحيسن ومحمد الغالي ولد أخطور، و عبداتي ولد ديدي، و حمدي ولد لفضيل. هؤلاء يا أماه، جمال الطانطان وبهاؤه، عندما رحل عنه أهله. جمعت ثيابي في حقيبتي السوداء، رأيت إخوتي وهم يراقبون ما أفعله، أعينهم لا تصدق ما تشاهد. قالت أختي الصغرى: أين أنت ذاهب؟ قلت لها: إلى الداخلة، هناك مستقبلي، وهناك سأمضي بقية حياتي. هناك، إنها بعيدة. فأجابتها وأنا أحكم قبضتي على الحقيبة، قدر الله ما شاء فعل.
امتقع وجه أبي ولم ينبس ببنت شفة، ظل صامتا كالسماء، تغير وجه أمي، فهرع إخوتي الصغار يسألونني سبب الرحيل. قلت لهم: بأن الحكومة تطالب حاملي الشهادات بالالتحاق إلى مراكز المعلمين، من أجل اجتياز امتحان الوظيفة.
دخلت غرفتي، فأغلقت بابها بإحكام، فوضعت قربي كأس قهوة سوداء ساخنة، فتحت زرالمسجل، فإذا بصوت محجوبة منت الميداح يعلو السماء، كانت تغني بصوت شجي أغنيتها الشهيرة: ” ليلة وداعو قلبي ولساني ماراعو” كان صوتها يسكن السماء، يصل جماله إلى تلك الروابي الممتدة في الناحية الشمالية من مدينتنا الطانطان.
خرجت من غرفتي، ووجدت أهلي يغطون في نوم عميق، تناولت وجبة لسان الطير، وحليب عذب طعمه يروي العطشى، كان حليب شاة، ولدت لتوها، فمخضمت أمي حليبها. دخلت المطبخ، فرأيت هناك دقيق مكتوب عليه: دقيق كنيدي. نمت والقلق يستبد بي، و رغبة السفر تتررد بداخلي، ورغبة البقاء تتأرجح إلى الوراء، وتتبدد. الحب لا يترك أحد. و المحب لا يهنأ بالنوم وحبيبته بعيدة عنه.
كل أحداث هذه الرواية، هي من وحي خيال المؤلف، وأي تشابه بين الأشخاص والأحداث فهو محض صدفة. يتبع…